مقدمة: يشهد الاقتصاد المصري تحديات مزدوجة تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم وتصاعد أسعار الفائدة بشكل غير مسبوق. فقد أدت موجات التضخم الأخيرة وانخفاض قيمة الجنيه المصري إلى ضغوط معيشية على المواطنين، مما دفع البنك المركزي المصري لاتخاذ إجراءات قوية لكبح الأسعار ودعم العملة. تأتي هذه التطورات في ظل بيئة اقتصادية عالمية مضطربة تتسم بارتفاع الدولار الأمريكي وأسعار الطاقة، مما يطرح تساؤلات حول مدى قدرة السياسات الحالية على تحقيق الاستقرار المنشود سريعًا.
البنك المركزي المصري ورفع أسعار الفائدة
تبنّى البنك المركزي المصري سياسة نقدية تقييدية صارمة لكبح جماح التضخم وحماية العملة الوطنية. فمنذ عام 2022، قام المركزي برفع أسعار الفائدة عدة مرات بشكل حاد، culminating (بلغت ذروتها) في مارس 2024 عندما زاد سعر الفائدة الأساسي بمقدار 600 نقطة أساس دفعة واحدة
reuters.com
. وبهذه الزيادة الاستثنائية وصل سعر الإيداع لليلة واحدة إلى حوالي 27.25%
reuters.com
، وهو مستوى قياسي يهدف إلى امتصاص السيولة وخفض معدلات التضخم الجامحة. وقد جاءت هذه الخطوة بالتوازي مع تحرير كبير في سعر صرف الجنيه، حيث سُمِح للعملة بالانخفاض بشكل حاد أمام الدولار ضمن اتفاق قرض مع صندوق النقد الدولي
reuters.com
. استمر البنك المركزي في عام 2025 بمراقبة الوضع الاقتصادي عن كثب، ومع ظهور دلائل على تباطؤ نسبي في التضخم، بدأ في تخفيف حدة سياسته النقدية بحذر. ففي 22 مايو 2025 قررت لجنة السياسة النقدية خفض سعر الفائدة الأساسي بمقدار 1% (100 نقطة أساس) للمرة الثانية خلال العام، ليهبط سعر الإيداع إلى 24% وسعر الإقراض إلى 25%
reuters.com
. وأوضح المركزي أن هذا الخفض المدروس جاء بعد استقرار نسبي لمعدلات التضخم وتحسن في نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من العام
reuters.com
. ومع ذلك، أكد صانعو السياسات النقدية أنهم سيبقون يقظين تحسبًا لأي مخاطر تضخمية مستقبلاً، وأن مسار التيسير النقدي سيكون تدريجيًا لدعم اتجاه انخفاض التضخم المتوقع دون الإخلال باستقرار الأسعار.
موجة تضخم غير مسبوقة وارتفاع الأسعار
شهدت مصر خلال العامين الماضيين موجة تضخم حادة أثرت على معيشة المواطنين وكلفة الإنتاج. فبعد سلسلة خفض لقيمة الجنيه منذ أوائل 2022، ارتفعت أسعار السلع والخدمات بوتيرة غير معهودة. وبلغ التضخم السنوي في المدن المصرية مستوى قياسيًا تاريخيًا عند 36.5% في يوليو 2023
aljazeera.net
، مدفوعًا بارتفاع حاد في أسعار الغذاء والطاقة. ووفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، قفزت أسعار المواد الغذائية والمشروبات وحدها بنحو 68.4% على أساس سنوي في ذلك الشهر، بينما تضاعفت أسعار اللحوم والدواجن تقريبًا (+93%) مما فاقم الأعباء على الأسر المصرية
aljazeera.net
. وجاءت هذه الارتفاعات نتيجة مزيج من العوامل، أبرزها تراجع قيمة العملة المحلية الذي زاد تكلفة الواردات (مصر أكبر مستورد للقمح عالميًا)، إلى جانب اضطرابات سلاسل الإمداد العالمية وارتفاع أسعار السلع الأساسية عالميًا بفعل الأزمات الدولية. مع دخول عام 2024، بدأ معدل التضخم في التراجع النسبي بفضل تأثير سنة الأساس وتشديد السياسة النقدية. فانحسر التضخم السنوي في المدن من ذروته التاريخية إلى نحو 12.8% في فبراير 2025
reuters.com
، ما اعتُبر مؤشرًا إيجابيًا على نجاح نسبي لجهود كبح الأسعار. إلا أن هذا الاتجاه سرعان ما انعكس اتجاهه بشكل طفيف في الربع الثاني من 2025، حيث عاود التضخم الارتفاع مجددًا مدفوعًا ببعض الزيادات في الأسعار الإدارية وارتفاع الطلب الموسمي. وأظهرت أحدث البيانات الرسمية ارتفاع المعدل السنوي للتضخم في الحضر إلى 16.8% في مايو 2025 مقابل 13.9% في أبريل
egypttelegraph.com
، في أسرع وتيرة صعود منذ بداية العام الحالي. يُعزى ذلك جزئيًا إلى ارتفاع أسعار عدد من السلع الأساسية مجددًا خلال الربيع، مثل الخضروات والفاكهة والأسماك، إضافة إلى تأثير بعض القرارات الحكومية كتحريك أسعار الطاقة. وعلى الرغم من هذا الارتفاع الأخير، لا تزال وتيرة التضخم أدنى بكثير مما كانت عليه في منتصف 2023، مما يشير إلى إمكانية السيطرة التدريجية عليه مع استمرار السياسات الحالية.
الجنيه المصري تحت ضغط الدولار
لم تكن الضغوط التضخمية بمعزل عن أزمة سعر الصرف، بل كان انخفاض قيمة الجنيه المصري أحد أبرز محركات التضخم. فمنذ مارس 2022 وحتى أوائل 2023، تعرض الجنيه لثلاث خفضات رئيسية لقيمته
aljazeera.net
، انتقل معها السعر الرسمي من حوالي 15.7 جنيهًا للدولار إلى نحو 30 جنيهًا. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث تم في مارس 2024 تبنّي سياسة سعر صرف أكثر مرونة تنفيذا لشروط برنامج صندوق النقد الدولي، ما أدى إلى هبوط الجنيه على نحو حاد ليكسر حاجز 50 جنيهًا لكل دولار لأول مرة
reuters.com
. وبذلك فقدت العملة المصرية أكثر من ثلثي قيمتها مقابل الدولار منذ بداية 2022 حتى منتصف 2024
reuters.com
، مما أدى إلى ارتفاع كلفة الواردات بشكل هائل واضطراب أنشطة الأعمال التي تعتمد على المواد الخام والأسعار العالمية. هذا التراجع الكبير للجنيه وضع البنك المركزي وصنّاع القرار أمام معضلة تحقيق التوازن بين استقرار الأسعار ودعم النمو. فمن ناحية، أسهم تحرير سعر الصرف في تقليص اختلالات سوق النقد الأجنبي والقضاء على السوق الموازية إلى حد ما، وجذب بعض التدفقات والاستثمارات الخارجية على المدى المتوسط. لكنه من ناحية أخرى أدى إلى ارتفاع فوري في أسعار السلع المستوردة والمحلية على حد سواء بسبب تضاعف تكلفة المواد الخام المستوردة. وقد استقر سعر الدولار الأمريكي حاليًا عند حوالَي 50 جنيهًا مصريًا
mobtada.com
, مما يواصل فرض ضغوط على فاتورة الاستيراد لا سيما للسلع الأساسية كالقمح والوقود. ورغم إعلان الحكومة عن تأمين احتياجات البلاد من العملات الأجنبية عبر اتفاقات استثمارية وقروض دولية، فإن تقلبات الأسواق العالمية – وخصوصًا قوة الدولار عالميًا – لا تزال تشكل عامل ضغط إضافيًا على الجنيه. وتعكف السلطات المالية على تنفيذ إصلاحات هيكلية وتحفيز مصادر العملة الصعبة (كالسياحة والصادرات وتحويلات العاملين بالخارج) لكبح العجز في ميزان المدفوعات وتخفيف الضغط على سعر الصرف على المدى الطويل.
الذهب ملاذ آمن وسط الاضطرابات الاقتصادية
أمام مشهد ارتفاع الأسعار وتآكل القوة الشرائية للجنيه، برز الذهب كملاذ آمن تقليدي يلجأ إليه المصريون لحفظ القيمة والتحوط من التضخم. وقد شهدت أسعار الذهب في السوق المحلية قفزات قياسية متتالية بالتوازي مع انخفاض العملة المحلية وارتفاع المعدلات العالمية. ففي مطلع يونيو 2025 سجل الذهب عيار 21 – وهو الأكثر شعبية في مصر – سعرًا غير مسبوق بلغ حوالي 4630 جنيهًا للجرام
mobtada.com
, مقارنة بمستويات تدور حول 800 جنيه فقط للجرام قبل تحرير سعر الصرف في 2016 على سبيل المثال. هذا الارتفاع الكبير في سعر المعدن النفيس محليًا يعكس عاملين رئيسيين: أولهما الارتفاع العالمي في أسعار الذهب نتيجة التوترات الاقتصادية والجيوسياسية (حيث يُنظر إلى الذهب دوليًا كملاذ آمن في أوقات عدم اليقين)، وثانيهما الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه الذي ضاعف سعر الذهب المقوّم بالعملة المحلية. وقد تأثر السوق المحلي أيضًا بعوامل موسمية كزيادة الطلب قبيل عيد الأضحى، مما عزز من الارتفاع في الأسعار
mobtada.com
. على الصعيد العالمي، ساهمت سياسات التشديد النقدي في الولايات المتحدة وأوروبا في رفع تكلفة الاقتراض وخفض شهية المستثمرين تجاه الأصول عالية المخاطر في الأسواق الناشئة. وأدت زيادات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة إلى أعلى مستوى منذ عقود إلى دعم قوة الدولار وإضعاف العملات الأخرى، ما جعل الذهب أكثر جاذبية كأصل بديل. وبالتوازي، زادت التوترات الدولية – مثل الحرب التجارية بين أمريكا والصين والتوترات الإقليمية في الشرق الأوسط – من حالة عدم اليقين الاقتصادي عالميًا
mobtada.com
، الأمر الذي دفع المزيد من المستثمرين المحليين والعالميين للتحوط بشراء الذهب. وفي مصر، ازداد إقبال المدخرين على شراء السبائك والجنيهات الذهبية كوسيلة لحفظ مدخراتهم من التآكل، خاصة بعد تراجع العائد الحقيقي على الودائع المحلية بسبب ارتفاع التضخم. ورغم استقرار سعر الأونصة عالميًا مؤخرًا، فإن أي تقلبات جديدة على الساحة الدولية قد تنعكس بسرعة على أسعار الذهب محليًا، ارتفاعًا أو انخفاضًا، نظرًا للارتباط الوثيق بينهما.
خاتمة وتحليل
في المجمل، يقف الاقتصاد المصري اليوم عند مفترق طرق، محاولًا الموازنة بين كبح التضخم ودفع عجلة النمو في آن واحد. البنك المركزي المصري نجح إلى حد ما في فرملة التضخم الجامح عبر رفع أسعار الفائدة إلى مستويات تاريخية، مما أتاح تخفيف الضغوط السعرية في أوائل 2025
reuters.com
. كما أن تحرير سعر الصرف كان خطوة جريئة لاستعادة الثقة وتوفير النقد الأجنبي رغم تبعاتها المؤلمة على المدى القصير. وتشير توقعات البنك المركزي نفسه إلى إمكانية استمرار تراجع معدل التضخم العام بشكل تدريجي خلال ما تبقى من 2025 وطوال 2026
egypttelegraph.com
، بدعم من سياسات التشديد النقدي الحالية وانحسار تدريجي للضغوط التضخمية. ومع ذلك، يواجه هذا التفاؤل الحذر اختبارات حقيقية في الأشهر المقبلة. فمن جانب، قد تؤدي أي صدمات خارجية جديدة – كارتفاع أسعار النفط عالميًا أو تقلبات مفاجئة في الأسواق المالية – إلى إعادة إشعال ضغوط الأسعار المحلية. ومن جانب آخر، لا تزال الإصلاحات الهيكلية عاملًا حاسمًا لضمان استقرار الاقتصاد الكلي؛ إذ أن ضبط أوضاع المالية العامة وتنشيط الإنتاج المحلي وجذب الاستثمار الأجنبي عوامل لا غنى عنها لتعزيز مناعة الاقتصاد ضد التقلبات. في الختام، الاقتصاد المصري اليوم أمام تحدٍ واضح يتمثل في احتواء التضخم دون خنق النمو. ورغم صعوبة المهمة، فإن استمرار التنسيق بين السياسات النقدية والمالية، إلى جانب مراقبة التطورات العالمية والمحلية عن كثب، سيشكل مفتاح النجاح في عبور هذه المرحلة الحرجة. الأشهر القادمة ستكون حاسمة في تأكيد ما إذا كان التضخم سيسلك مسارًا هبوطيًا مستدامًا مع بقاء الجنيه المصري مستقرًا نسبيًا، أم أن عوامل جديدة قد تفرض على صنّاع السياسات تبني إجراءات إضافية. وفي كل الأحوال، يبقى تحقيق الاستقرار الاقتصادي هدفًا استراتيجيًا يتطلب المرونة في السياسات والصبر في التطبيق، مدعومًا بثقة الجمهور في أن الأزمة الحالية هي مرحلة ستعقبها استعادة لعافية الاقتصاد على المدى البعيد. Meta Title: الاقتصاد المصري بين أسعار الفائدة المرتفعة ولهيب التضخم – تحليل حديث Meta Description: مقال اقتصادي حديث يناقش تأثير ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم على الاقتصاد المصري والجنيه. يستعرض قرارات البنك المركزي، موجة التضخم القياسية، ضغوط الدولار على الجنيه، ودور الذهب كملاذ آمن، مع تحليل ختامي للتوقعات المستقبلية.
