تزايدات في الآونة الأخيرة الحاجة الماسة إلي ضرورة اعلان الحكومة عن رؤيتها الاقتصادية علي المديين القصير والمتوسط، ليكون مكملا لبرنامج الاصلاح الاقتصادي، الذي تنفذه الحكومة بالتعاون مع صندوق النقد الدولي منذ عام 2016. وبالفعل، جاءت «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية: السياسات الداعمة للنمو والتشغيل»، التي اطلقتها الحكومة، مؤخرا، لتجيب، بحسب د. مصطفي مدبولي رئيس الوزراء، على العديد من التساؤلات، التي طُرحت مؤخرًا، ومنها: هل لدى الدولة المصرية رؤية للمستقبل القريب والمتوسط في ظل التحديات التي تواجهها؟ وهل لدى الحكومة رؤية لما بعد انتهاء برنامج صندوق النقد الدولي؟ وهل تعمل الدولة على تكامل الأفكار لا على انفراد؟
وتعد السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، بحسب د. مدبولي، نتاج جهود تقوم عليها الحكومة منذ يوليو 2024، تركز على قضيتي "النمو والتشغيل"، اللاتي يشغلنا العالم بأسره، وذلك ظل الاضطرابات التي اجتاحت العالم، حيث أن جميع خطابات قادة العالم، دون استثناء تؤكد غياب الرؤية الواضحة، خصوصا أن ما يشهده العالم من اضطرابات لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، وأنه هناك حالةٌ من عدم اليقين والغموض الشديدتين، بالتزامن مع الضغوطٌ الاقتصاديةٌ الكبيرة، لا سيما في الاقتصادات الناشئة، تتجلى في تضخم الديون وزيادة عبء خدمة الديون العالمية.
اصلاحات محددة
تعاطيا مع الاضطرابات التي يشهدها العالم الآونة الأخيرة تتعالي الآونة الأخيرة دعوات لإعادة تصميم دور المؤسسات الدولية، من الأمم المتحدة إلى جميع المؤسسات المالية الدولية، وأن الظرف الراهن يفرض ضرورة المضي قدما في تنفيذ إصلاحات محددة داخل هذه المؤسسات لتمكينها من مواجهة التحديات العديدة، التي لا تستطيع معالجتها بمفردها، وأنه لا يمكن لأي دولة مواجهة هذه التحديات الكبرى بمفردها، وأنه في ظل هذه الظروف تقوم الحكومة علي بلورة رؤية للدولة المصرية التي تتمثل في هذه السردية.
وتركز السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية على كيفية الاستفادة من جهود الدولة، لا سيما في مجال البنية التحتية والخدمات اللوجستية، ما يعزز -بدوره- أداء القطاعات الإنتاجية بالاعتماد علي ما حققته مصر من بنية تحتية ناجحة خلال السنوات الأخيرة، ولتبدأ مرحلة جني الثمار بتركيز أولوياتها على القطاعات القابلة للتداول، التي تُولّد أعلى قيمة مضافة، معتمدة علي نهج الدول الكبري في تجاربها التنموية، التي بدأت بالتركيز على البنية التحتية، بدءًا بالإصلاحات الهيكلية المؤسسية، ثم الانتقال إلى القطاعات القابلة للتداول كالصناعة والسياحة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ثم المرحلة التالية وهي: الابتكار، ثم المرحلة الأكثر تطورًا، وهي: الصناعات شديدة التعقيد وسريعة النمو.
وتُلخص السردية الوطنية، والكلام لـ "رئيس الوزراء"، جهود الحكومة خلال الفترة الماضية والحالية، بالإضافة إلى رؤيتها للسنوات الخمس المقبلة. ولذلك، فهو يتضمن إصلاحات في السياسة النقدية والمالية، وكذلك في السياسات الضريبية والجمركية، بهدف تهيئة مناخ أكثر ملاءمة للاستثمار والقطاع الخاص. ولكن، يبقى السؤال الأهم: ما هي الإجراءات التي ستساهم في تبسيط مناخ الاستثمار، وجذب الاستثمارات، وتشجيع القطاع الخاص على القيام بدور محوري في قيادة مسيرة التنمية الحكومية في المرحلة المقبلة؟
وترتكز هذه الاستراتيجية على مبدأ أساسي يتمحور حول تعزيز دور القطاع الخاص، الذي تراهن الحكومة علي أن يلعلب دورًا محوريًا في دفع عجلة التنمية الاقتصادية في مصر خلال الفترة المقبلة، وذلك بدفع من الإصلاحات الهيكلية، التي نفذتها الحكومة مؤخرًا، وأدت إلى تحسن في العديد من المؤشرات الاقتصادية، حيث بلغ معدل النمو 4.2% خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الحالية، مقارنةً بـ 2.4% في العام السابق، والأهم أن هذا النمو مدفوعًا بقطاعات اقتصادية مستدامة مثل الصناعة والسياحة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والزراعة.
انجازات ملموسة
بفضل الإجراءات الحكومية، وفقا لـ " د. مدبولي"، حققت الدولة فائضًا في الموازنة بنسبة 3.6%، وتستهدف تحقيق فائض بنسبة 4% العام المقبل، وهو أعلى فائض تحققه دولة على الإطلاق، وأن الدولة وضعت رؤية شاملة لجميع هذه النقاط، حيث تهدف الحكومة إلى خفض عبء الدين إلى أدنى مستوى له منذ بدء جمع بيانات الدين، ومواصلة جهود استهداف التضخم الذي انخفض من 25.7% في يوليو 2024 إلى 13.9% في يوليو 2025، والحفاظ علي حجم مرتفع من تحويلات العاملين بالخارج (تجاوزت 36.5 مليار دولار عام 2024/ 2025)، وخفض معدل البطالة، الذي انخفض إلى أدنى مستوى له في أربع سنوات.
وتعمل الحكومة، وفقا لما جاء في السردية، علي ضمان استدامة عملية التنمية والحفاظ على معدل نمو في مصر يتراوح بين 5% و7%، وذلك من خلال المضي قدما وفقا سيناريوهات مختلفة، وأنه رغم التحديات التي تواجهها البلاد على المستويين الجيوسياسي والخارجي، وتوقعات السيناريوهات الأسوأ، إلا أن الاقتصاد المصري لا يزال مستقرًا وإيجابيًا من منظور المؤسسات الدولية والقطاع الخاص المصري، ومن المتوقع أن ترتفع الصادرات المصرية بنسبة 20% هذا العام مقارنةً بالعام الماضي، وهو إنجازٌ ملحوظ، مع الحرص علي ضمان عدم انخفاض هذا الرقم خلال السنوات الخمس المقبلة، وتحقيق زيادة سنوية بنسبة 20% مقارنة بالعام السابق.
ويتمثل الهدف الرئيسي من كل هذه الجهود، بحسب رئيس الوزراء، تحسين جودة حياة المواطن المصري، حيث أن الأمر لا يقتصر على مجرد أرقام ومؤشرات، بل من الضروري أن يكون لهذه الإصلاحات أثر إيجابي على رفاهية المواطن المصري في المستقبل القريب، وأنه من هذا المنطلق يتم العمل على تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وتعزيز دور القطاع الخاص في عملية التنمية، وقياس ذلك بأرقام ومؤشرات كمية واضحة لتقييم نجاحنا.
ومن المنتظر، بحسب د. مدبولي، أن يتم طرح وثيقة السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية للحوار المجتمعي، ثم تشكيل مجموعات عمل متخصصة لمناقشة كل محور من محاورها، علي أن يتولي تنسيق العمل بين مجموعات العمل خبيرًا ومستشارًا مصريًا، وليس عضوًا في الحكومة المصرية، أملا في أن ينتهي الحوار الوطني المقرر له شهرين ونصف إلى نتيجة نهائية بحلول ديسمبر المقبل، الذي سيشهد الاعلان -بالتفصيل- عن رؤية مصر للسنوات القادمة في مؤتمر شامل، لتكون الوثيقة النهائية بمثابة رؤية للتنمية الاقتصادية للدولة المصرية للسنوات الخمس المقبلة، تعمل الدولة المصرية في إطارها، وتتضمن مؤشرات كمية واضحة تلتزم الدولة والحكومة والجهات المعنية بتنفيذها خلال الفترة المقبلة.
التكامل والتناسق
تعد السردية الوطنية، وفقا لـ "د. رانيا المشاط، وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي"، إطارًا شاملًا يُحقق التكامل والتناسق بين برنامج عمل الحكومة، ورؤية مصر 2030، في ضوء المتغيرات المتسارعة، التي فرضتها المستجدات الإقليمية والدولية، بهدف استمرار مسار الإصلاح الاقتصادي، والتوجه بشكل أكبر إلى القطاعات الأعلى إنتاجية، والأكثر قدرة على النفاذ للأسواق التصديرية، مستفيدة مما تم إنجازه من بنية تحتية متطورة تمثل قاعدة داعمة للتصنيع والاستثمار، وإعادة تعريف دور الدولة في الاقتصاد، بما يعزز القدرة التنافسية للاقتصاد ويحفز مشاركة القطاع الخاص.
وتحدد الوثيقة السياسات والإصلاحات الهيكلية الداعمة للنمو وجذب الاستثمار، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص، وتسليط الضوء على الفرص القطاعية الواعدة، استنادًا إلى أحكام قانوني التخطيط العام للدولة والمالية العامة الموحد، التي تلزم وزارة التخطيط بتحديد الأهداف الاستراتيجية للدولة لسنة الموازنة والإطار الموازني متوسط المدى، مع تحديد أولويات التنفيذ، ورسم المنظومة المتكاملة للتخطيط التنموي وتحديد الرؤية والاستراتيجيات ذات الصلة ومتابعة تنفيذها، وربطها بسياسات الاقتصاد الكلي، والتزام كل وزارة وجهة بالتنسيق مع وزارة التخطيط بإعداد وتحديد مؤشرات أداء المخرجات ونتائج تنفيذ البرامج والأنشطة والمشروعات.
وبدأت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي في إعداد هذه السردية منذ أكتوبر 2024، انطلاقًا من توجيهات رئيس الجمهورية، التي كان في صدارتها زيادة معدلات النمو الاقتصادي، من خلال التركيز على القطاعات الإنتاجية، وعلى رأسها الصناعة، وتشجيع القطاع الخاص، مستندة إلى البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية من خلال السياسات الداعمة للنمو والتشغيل مُتضمنة في محاوره الثلاثة: تعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، وزيادة قدرة التنافسية الاقتصادية وتحسين بيئة الأعمال، ودعم الانتقال الأخضر.
الاستراتيجيات الخاصة
تشمل السردية الاستراتيجيات الخاصة بالاستثمار الأجنبي المباشر، والتنمية الصناعية، والتجارة الخارجية، والتشغيل بما يعزز كفاءة ومرونة سوق العمل، مع التركيز على القطاعات ذات الأولوية، منها الصناعة التحويلية والسياحة، والزراعة، والطاقة، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بالتزامن مع طرح السياسات المالية والنقدية وحوكمة الاستثمارات العامة الداعمة لهذه الاستراتيجيات فضلًا عن التخطيط الإقليمي لتوطين التنمية الاقتصادية، حيث تتكامل السردية مع كل الاستراتيجيات الوطنية وتستجيب للمعطيات الاقتصادية الحالية.
وجوهر السردية الوطنية، بحسب د. المشاط، يقوم على علاقة تكاملية واضحة بين استقرار الاقتصاد الكلي وصياغة وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية، بما يُرسّخ أسس التنمية الاقتصادية ويطلق العنان للإمكانات الكامنة في الاقتصاد المصري، خاصة وأنها تأتي في ظل فترة يشهد العالم خلالها مزيدًا من الاضطرابات والتوترات الجيوسياسيّة، وتزايُد حِدة الصراعات الإقليميّة، التي شهد معها العالم احتداد السياسات الحمائية، وما ارتبط بها من اضطراب في أسواق المال، وتصاعد تخوّف المجتمع الدولي من تأثير تنامي التوترات الدوليّة على درجة استقرار النظام الاقتصادي العالمي، وعلى آفاق النمو المُستقبلي والاتجاهات التضخمية مما يزيد من حالة عدم اليقين.
وتتبع الحكومة المصرية، في ضوء تلك التطورات، نهج توازني مُعتدل يُعزز من صمود الاقتصاد المصري وقدرته على مُواكبة الأزمات العالميّة واستغلال الفرص الكامنة لتجاوز أبعادها، مع التصدي بحزم للتحديّات الداخليّة بالتركيز على السياسات والبرامج، التي من شأنها مُواجهة هذه التحديات، وتسريع عجلة النمو الشامل والتنمية المُستدامة بأبعادها الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، حيث تدفع تداعيّات الأحداث الدوليّة الحكومة إلى تطبيق النهج التخطيطي المرن، وما يتطلّبه من مُتابعة ومُراجعة مُستمرة لمُستهدفات الخطط والاستراتيجيات الوطنية، الأمر الذي يُعدّ ضرورة لا غنى عنها في ظل هذا السياق المتغير.
وتقوم الحكومة في ظل هذه الظروف الاستثنائية بالعمل علي إعداد وتحديث مجموعة من الاستراتيجيات ذات الأولوية من بينها استراتيجية الاستثمار الأجنبي المباشر، استراتيجية التنمية الصناعية، استراتيجية تعزيز التجارة الخارجية، والاستراتيجية الوطنية للتشغيل، بالإضافة إلى التحول نحو إعداد خطط التنمية والموازنة العامة في إطار مُوازني مُتوسط الأجل يضم سنة الموازنة وثلاث سنوات لاحقة، بما يسهم في تعزيز قدرات الاقتصاد الوطني ودفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة القدرة التشغيلية، مما يسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي وتوفير المزيد من فرص العمل.
دعم خطط الدولة
تمثل السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، بحسب أحمد كجوك، وزير المالية، إطارًا شاملًا داعمًا لكل خطط الدولة واحتياجاتها خلال المرحلة المقبلة، وأنها تعكس رؤية الحكومة نحو دفع النمو الاقتصادي وتعزيز كفاءة استخدام الموارد.
وتأتي هذه الرؤية استجابة لمتغيرات الاقتصاد العالمي والإقليمي، وتضع نصب أعينها تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، بما يضمن تحسين مستويات المعيشة، وزيادة الاستثمارات، وخلق المزيد من فرص العمل.
ولا تقتصر السردية الوطنية، والكلام لـ "كجوك"، على جانب اقتصادي فقط، بل ترتبط أيضًا ببُعد اجتماعي وتنموي يهدف إلى تحقيق العدالة بين الفئات المختلفة، وضمان التوزيع العادل لعوائد التنمية.

